السبت، 9 مايو 2015

الوطن في شعر نزار قباني



بداية لنتفق على أن آلاف الموهوبين يتمنون لو نالهم من أضواء نزار قباني ولو جزءاً بسيطاً بصرف النظر عن القدرة الإبداعية وهذا يعني أنه لا بد من الاعتراف، أنه ليس من السهل اقتحام عالم شاعر مترامي الأطراف، كعالم الشاعر نزار قباني، محصن بقلاع عالية من الشهرة والذيوع وفيه من التنوع ما يبهر ومن الانسجام ما يُسحر وفيه من الارتقاء وما يحيل القارئ إلى فضاءات لا حدود لها.
إنه عالم ثري متسع لكل مجالات الحياة والكتابة عنه مغامرة بحد ذاتها، لأنه تجربة شعرية حافلة، تتميز بنوع من الاستثناء في تاريخ الشعر العربي المعاصر بسبب الموضوعات التي أثارها في شعره وبسبب الإشكاليات التي أثيرت حول شعره، لكن تبقى المغامرة كشفاً وتوغلاً في هذا العالم الجميل الذي ترك بصماته واضحة في ذوات أجيالنا، وخبّأ فيها فوانيس لا زالت تنير الطريق للعشق والثورة في آن معاً.
الشاعر الذي اقتحم علينا خلوتنا وفاجأنا بأحاسيس لم نعهدها، وبنواميس لم نتعامل معها من قبل، وبطقوس لم نمارسها إلا في عالمنا المظلم، لم يهادن ولم يداهن ولذا جاء شعره من قناعات شخصية خاصة غير آبه بعادات وتقاليد أو بمواقف ولذلك هوجم بشراسة منذ ديوانه الأول. وكان لحمه- على حد تعبيره- في سيرته الذاتية "قصتي مع الشعر" يوم ئذ طرياً وسكاكينهم حادة. ومنذ ذلك الوقت بدأت "حفلة الرَّجم" ومع هذا كله ظل يباغتنا مباغتة الفاتح حتى اخترق حياتنا وأشياءنا وأولادنا ونساءنا وكان في كل ما يفعل يلقى استجابة صريحة أو ضمنية. لم يترك لنا بيتاً لم يدخله، ولا طفلاً لم يلعب معه، ولا حديقة لم يجلس تحت أشجارها، ولا عاشقاً إلا احتضنه، ولا عاشقة إلا أهداها ديواناً من شعره وعلَّمها كيف تكتشف الأنوثة.
لقد كسر السائد فينا، وانتهك المحرم الاجتماعي الذي نخشاه لامتلاكه الجرأة في احتواء الضمير المقموع، فعلى يديه أصبحت مساحة الجمال أكبر من مساحة القبح، ومساحة الحب أكبر من مساحة الكراهية، وعلى يديه صار الشارع العربي أكثر شجاعة في مواجهة المتخاذلين والمهرولين فكان الناطق الرسمي بلسان من لا لسان لهم لأنه عالج قضايا كبرى شابها كثير من التعقيد.
إنه الشاعر الجريء الذي يجيد الوخز بالكلمات في فيض من الانفعالات والأفكار التي تبدو جارحة من فرط جرأتها، فهز كثيراً من القيم الفكرية والاجتماعية والسياسية الموروثة من عصور الانحطاط.
على هذا كان نزار قباني لغة خاصة، وإشكالية ما زالت تثير الصخب، وظاهرة تحتاج إلى بحث متأن فالشاعر كان شديد الوعي بالشروخ التي كان يحدثها في جدران المجتمع لأنه كان يعتبر نفسه صاحب مدرسة خاصة في الشعر وعليه أن يعيد تشكيل الوجدان العربي معتبراً نفسه "مقاتلاً حتى يصبح البحر أكثر زرقة، وعصافير الحرية أكثر تناسلاً، وقامة الإنسان أكثر ارتفاعاً" ولذلك استخدم أحكام تعميم متطرفة وأدان حالات في الواقع العربي إدانات بالغة القسوة وصلت إلى حد الهجاء.
ومع ذلك غفر له الناس شتمه بالغ القسوة لأمته وتاريخها بل على العكس فقد لعب شعره دوراً في صنع الوجدان الشعبي ورفع درجة الحساسية في الوعي الوطني عموماً. وهنا نرى الوطن حاضراً في ذاته وشعره وإن- اعتبر شاعر المرأة- فقد أعطى المرأة بعداً وطنياً وحمل الوطن عشقاً دائماً في ذاته فكتب شعراً للحب أخرج فيه علاقات الحب في المجتمع العربي من "مغائر القهر- والكبت، والباطنية، إلى ضوء الشمس ومنحها العلنية والشرعية.. وكسر صورة المرأة الجارية، وحوّل جسد المرأة العربية من وليمة بدائية تستعمل فيها الأنياب والأظافر إلى وردة ونجمة وقصيدة" يقول الشاعر:

ثوري، أحبُّكِ أن تثوري
ثوريْ على شرقِ السَّبايا والتَّكايا والبُخورِ
لا تَرْهبي أحداً
فإنَّ الشمسَ مقبرةُ النسورِ
ثوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوقَ السريرِ

وعندما بدأ بخضِّ الحياة الاجتماعية والسياسية العربية عرف قطاره الشعري محطات صاخبة "خبز وحشيش وقمرْ" في وجه شرق الخمسينات الغائب في البخور والتكايا والهوامش على دفتر النكسة، مع نهاية الستينات وانكسار الحلم العربي تتالت قصائده الحزيرانية التي نقلت همومه، وكتب شعراً للحرية حفظه الناس وتناقلوه، بلغة سلسة ومأنوسة وبشعرية رائدة وفي كل ما كتب كان قريباً من لغة الحوار اليومي الذي كان جواز سفر إلى جميع طبقات الشعب.

لقد عاش الشاعر لبلاده تهزه أفراحها وتبكيه مصائبها، وغنَّى البطولة، وهاجم التخاذل والضعف. إنه يلخص عصراً بكامله، عاشته أمتنا عبر إشراقاته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق