السبت، 9 مايو 2015

مرض نزار قباني



بعد انتقاله للعيش في أوروبا في ثمانينيات القرن المنصرم على إثر اندلاع الحرب الأهلية وحملات الإعلام المصري ضده على خلفية انتقاده اتفاقية كامب ديفيد ومقتل زوجته بلقيس، قرر الشاعر الراحل نزار قباني إقامة حاجز يمنع دخول النساء إلى قلبه وتفرغ للتأمل والتصوف والحياة العائلية، فكان متصوفا في طقوس فرحه وحزنه وقراءته للقرآن.
وأثناء مرضه ووجوده في إحدى مستشفيات العاصمة لندن قرر زعيم عربي ولأول مرة أن يزوره ، إلا أن نزار رحل ولم ترحل حملات المتطرفين ضده عندما حاولوا منع الصلاة عليه في جامع بلندن. رحل نزار فأين ذهبت أغراضه من كتب وأقلام ونظارته وعكازه؟
كتب نزار إحدى قصائده على كيس أدوية من الورق كان بجانب سريره، وحاول تأسيس حزب شعري مختلف عن الأحزاب العربية. جمعته رفقة يومية بفنجان قهوته قبل أن يدخل مكتبه الكائن في منزله والانطلاق في رحلة الكتابة. كانت أغنية عبد الحليم حافظ "قارئة الفنجان" الأحب إلى قلبه كما كانت قصيدته نهر الأحزان الاجمل بنظره، وأحب لقاءاته وجلساته كانت مع أدونيس ومحمود درويش.
ابنة نزار قباني الكبرى "هدباء" فتحت قلبها لـ"العربية.نت" بحديث خاص ومشوق عن تفاصيل حياة الشاعر نزار قباني في سنواته التسع اللندنية التي كان يفضل أن يسميها بـ"سنوات المنفى الاختياري".
قصة رحيله من مصر
بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان ومقتل زوجته بلقيس انتقل نزار قباني للعيش في مصر عام 1983 وتعرض لهجوم عنيف هناك من قبل الاعلام المصري على خلفية قصيدة ضد الرئيس أنور السادات انتقده فيها وانتقد اتفاقية كامب ديفيد للسلام المصري مع اسرائيل. ورغم وجود أصدقاء وقفوا إلى جانبه مثل يوسف ادريس ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومحمد عبد الوهاب واعتباره أن مصر أم الدنيا لم تتوقف الحملة ضده طوال عام كامل وخاصة من قبل أنصار التطبيع مع اسرائيل آنذاك وخاصة أنيس منصور . وقرر نزار الانتقال إلى سويسرا عام 1984 وبقي فيها 5 سنوات ثم ذهب إلى لندن عام 1989 وقضى فيها 9 سنوات حتى رحيله.
لماذا لم يرجع إلى سوريا ؟
ولكن لماذا لم يرجع من سويسرا إلى بلده سوريا؟ تجيب هدباء نزار قباني : لم يكن هناك من خيار سوى التساؤل هل يقدر أن يكتب أو لا إذا عاد؟!، وسوريا لم يعش فيها والدي إلا الطفولة والنشأة والدراسة والعمل الدبلوماسي، ولم يفكر حينها وهو خارج سوريا إذا كان بإمكانه أن يكتب أم لا، وعندما اختار العودة للعيش في لبنان قال "عدت إلى بلد لا يضربني على أصابعي عندما أكتب. كان يكره الرقابة كثيرا وهناك صحف كتب لها مثل الأسبوع العربي أو المستقبل أو الحياة إذا قالوا له سنحذف كلمة واحدة كان يرفض نشر المقال.
وكما يفهم من كلام ابنته، التي رافقته في سنواته الأخيرة، أن الأسباب التي دفعته للرحيل إلى أوروبا كثيرة منها: غياب بيروت عن ساحة خياراته بعد أن كانت خياره الأول والأخير والهجوم المصري عليه الذي حرمه من البديل العربي الثاني عن لبنان، فضلا عن بحثه عن حرية الكتابة، وكان يبحث عن توفير الأمان لأولاده عمر وزينب فضلا عن وجودي أنا في لندن. كان يعاني مع العالم العربي. كتابته كانت تنبع من ألم ومعاناة تجاه ما يحصل في العالم العربي. وحتى في سنوات المنفى -كما كان يسميها- كان يسافر لنشر أعماله في بيروت عبر دار النشر الخاصة به التي تحمل اسم "منشورات نزار قباني".
في بيت نزار اللندني ..
وفي تفاصيل الحياة اليومية لنزار قباني في بيته اللندني، تقول ابنته: والدي كان يحب البقاء في البيت (بيتوتي كما يقال بالعامية) وحياته الشعر والترتيب والقراءة والكتابة. يستحم ويخرج من غرفة إلى غرفة بكامل أناقته متوجها إلى مكتبه ليستمع للموسيقى الكلاسيكية ويضع ورقا أبيض ثم يشرب قهوته ويتفرغ للورقة البيضاء ويعتبر أنه يجب أن يعمل من العاشرة صباحا حتى الواحدة ظهرا، ثم يتناول طعام الغداء وينام حتى الرابعة ظهرا وبعد ذلك في السابعة أو الثامنة مساء تأتي فترة القراءة للشعر العربي والأوروبي المترجم. لم يكن والدي اجتماعيا، ولم يكن يذهب لرؤية أحد في الجاليات العربية أو غيرها واقتصر خروجه على حضور الأنشطة الفكرية أو أمسيات مشتركة أو استقبال اصدقاء مثل أدونيس ومحمود درويش وبلند الحيدري وعبد الرحمن منيف والعراقي الربيعي أثناء زيارتهم لندن.
وكان نزار قباني محبا للحدائق البريطانية ودائم الزيارة لها ويقول إنها من إعجاز الله، وذات يوم قال لابنته : "انظروا إلى الديمقراطية وكيف أعطوا للناس الحيز الكبير من المساحات من حدائق عامة حتى تستمتع الناس".
نزار وأدونيس
وتكشف هدباء بعض جوانب لقاءات الشاعرين نزار قباني وأدونيس: كانت علاقة قوية مع احترام للاختلافات الفكرية . والدي كان يمثل قمة البساطة الشعرية ويهمه أن يفهم الناس شعره، فيما يمثل أدونيس قمة الصعوبة ولا أعرف إذا كان يمهمه الوصول للناس أم النخبة. كانوا يتكلمون دائما عن الشعر والسياسة والوطن وذات يوم قال له والدي " يا أدونيس أجهد نفسي حتى أفهمك أنت بشرفك هل تفهم حالك ..لمن تكتب يا أدونيس؟!"، ثم يضحكون.
لا امرأة بعد بلقيس .. وبداية التصوف
وأبى نزار قباني، الذي تزوج مرتين في حياته وكانت له معجبات كثيرات، أن يدخل امرأة أخرى إلى قلبه بعد مقتل زوجته بلقيس قي بيروت -كما تقول ابنته هدباء-، وتضيف: لم يحب والدي بعد بقليس، لكن نزار الذي أحب المرأة لم ينته ولكن انتهت مرحلة وأقفل عليها وبدأت مرحلة تأمل وتفرغ للأولاد والأحفاد، وكان سعيدا في عالمه الجديد الفكري التأملي، و لم تكن هناك امرأة في حياته بعد بلقيس، حتى هاتفه لم يعطه لأحد، وعلاقته مع الكثيرين كانت تتم من خلالي.
كان نزار قارئا نهما في تلك الفترة وابرز الكتب التي كانت قريبة إلى قلبه أشعار المتنبي ومحمود درويش وأدونيس وأنسي الحاج والشعر الفرنسي الحديث وخاصة أعمال بودلير. وقال لابنته ذات يوم: أديت رسالتي 50 سنة كتبت وأعطيت أحاديث والآن أريد نوعا من التصوف. وتضيف "كان القرآن كتابه المفضل ويؤمن به ويحبه ومعجب بإعجاز اللغة العربية".
حزب شعري في حياته
أبرز القصائد السياسية التي كتبها نزار في منفاه الاختياري كانت: "قمعستان"، "السياف العربي"، "المهرولون"، "متى يعلنون وفاة العرب"، "أطفال الحجارة". وكان يقول لابنته: شعري السياسي ضد من هدم الوطن ولكني أكتب بحب وأهدم حتى أبني.
وتتحدث ابنته عن قصيدة "حزب المطر" قائلة: والدي أراد القول إنها تمطر في لندن ولكنه مطر يحمل معه حرية تتيح لي الكتابة في كل وقت بينما في البلاد الثانية الشمس ساطعة بلا حرية فمن يلحق بي لنؤسس حزب المطر، وفعلا وصلته اتصالات كثيرة للانضمام إلى حزب المطر.. كان المنفى رحمة له ولهدى نعماني ودرويش وأدونيس كان لديهم القدرة على الكلام.
وتشير هدباء قباني إلى وجود قصائد لوالدها لم تنشر بعد وهي قصائد في الحب والوطن مشددة على أن عائلته لا تريد التجارة بأدبه ولكنها عازمة على نشرها في الوقت المناسب.
أغنية قارئة الفنجان
وكانت الموسيقى رفيقة نزار في سنواته الأخيرة، وأما الأغنية التي كانت الأحب إلى قلبه فهي "قارئة الفنجان" التي كتبها للراحل عبد الحليم حافظ. تقول ابنته: لقد أحب هذه الأغنية التي أداها عبد الحليم رغم أنها لم تكن الأحب إليه كقصيدة وذلك بسبب معاناة عبد الحليم 3 سنوات في التلحين. أما أحبّ القصائد إلى قلبه فكانت "نهر الأحزان" وقصيدة "خبز وحشيش وقمر" و "متى يعلنون وفاة العرب".
نزار والسفير السعودي
وكانت قصيدة نزار "متى يعلنون وفاة العرب" أثارت جدلا في أوساط المثقفين العرب. وتحكي هنا هدباء: بعد هذه القصيدة عاتبه صديقه الشاعر والسفير السعودي في لندن -في ذلك الوقت- غازي القصيبي وطلب منه عدم التشاؤم إلى هذه الدرجة، ولكن بعد سنوات كتب القصيبي -الذي يشغل الآن منصب وزير العمل في السعودية- قصيدة أهداها لروح نزار قال له فيها "ها قد أعلنا وفاة العرب".
المتطرفون يلاحقونه
وفي شهر رمضان كان نزار يتمنى الصوم لكن وضعه الصحي لم يسمح بذلك. وعن هذا الشهر تحكي ابنته: لم يصمه والدي بسبب قلبه وأدويته، كنا نفطر معا، وكان يقول شعري هو صلاتي وشعري هذا كله من الله وأنا عاجز أن أعمل شيئا دون الله.
ثم تضيف "عندما توفي وأثناء الصلاة عليه في جامع بلندن خرج بعض المتطرفين الجزائريين هنا يقولون أوقفوا الصلاة هذا كافر لا تجوز الصلاة عليه وجنّ الناس وقالوا لا أحد يعرف ما في قلبه".
قصيدة على علب أدويته
وذات يوم من الأشهر الـ8 الأخيرة في حياته التي قضاها مريضا عام 1998 أصيب نزار بذبحة قلبية ولم يتعاف منها وكان يحتاج لجراحة ثانية بعد الجراحة التي أجراها قبل 15 سنة وكان يعرف ذلك ولكن لم يكن يحتمل إجراء جراحة أخرى.
في تلك الأشهر الثمانية كان قلم نزار عصيا على الانكسار واستمر في النزيف على أوراقه. تقول هدباء : أبقيت الأوراق والقلم بجانب سريره حتى آخر3 أشهر عندما أصابه التعب الشديد فتركت الأوراق حتى آخر دقيقة، ولم يكتب فأخذت الأوراق وتركت القلم، وذات يوم استيقظ ليلا وأراد الكتابة ولم يجدها فأفرغ كيس الأدوية المصنوع من الورق وكتب على جوانبه قصيدة واحتفظنا بها. كنت أحس أنه إذا كتب فهذا دليل على أنه يتعافى.
اتصال من زعيم عربي
وتمسك نزار قباني بحياته الخاصة وكان يقول لابنته " إذا وقع أي شيء علي احميني " وتقول : "انا لم اسمح لاحد بروؤيته في المستشفى وهو مريض . أتصل السفير الاردني وقال ان جلالة الملك حسين يريد روؤية نزار والاطمئنان عليه فاعتذرة وقلت : ارجوكم ليست لديه القدره على استقبال احد ، وجاء من مصر محمد حسنين هيكل وكذالك جاء محمود درويش وكل اصدقائه . وبسبب شعره السياسي وهجائه للاوضاع العربيه كان ثمة خوف من تعرضه لاعتداء جسدي ولكن شجاعته على الورق كانت أقوى ، كان جسدياً مثل كل الناس يخاف ولاكن جسدياً شجاعته كانت تأتي على الورقة ويحس بمسؤوليته عن الناس  " كما تقول ابنته تصف هدباء والدها بأنه كان ناطقاً باسم الناس ، وتشير إلى حادثة جرة في العراق بعد إنهاء أمسيته الشعرية عندما صرخ أحد الشباب " انت سارق " فقال له والدي : " ماذا تقول وماذا قصدك ؟ أأنت كتبتها وأنا أخذتها؟"، فقال الشاب "هذا الكلام الذي كنت تقوله أنا كنت أريد أن أقوله"، ولهذا "كان والدي يقول أفكار الناس ويحكي بلسانهم".
وفي هذه السنوات التسع برزت طقوس الفرح والحزن في حياة نزار قباني "فالحزن لم يفارقه من يوم موت ابنه توفيق وعمره 22 عاما وانكسر ظهره برحيله وكتب أجمل القصائد فيه، وموت بلقيس ومآسي العالم العربي والحزن كان شريكا في حياته" – كما تروي ابنته. وتضيف: "أما الفرح فكان فيه مثل الأطفال، يفرح لكل شيء جديد من فكر جديد عن الحرية والحياة والكتابة وفي أعياد ميلاد أولاده. وعندما مرض لم يكن خائفا من الموت لأنه مؤمن كما كان لطيفا وقال: شكرا يا بنات أتعبتكم يا بنات".
متحف نزار قياني
وبعد رحيله عن الحياة جمعت عائلته أغراضه الشخصية مثل عكازه ونظارته وأقلامه وأوراقه وكتبه وأرسلتها إلى بيروت وحفظت في مكان ما "حتى يوما ما نتمكن من إقامة متحف صغير يحكي كيف كان يجلس نزار ويكتب وعندما نخرجها سنفعل ذلك دون فضل من أحد علينا ووالدي لم يحب أن يكون علينا فضل من حكومة أو دولة ولا نريد أن يستولي عليه أحد"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق